أميّة جحا .. لستِ وحدكِ من تتألمين
طوبى لريشة الإنسان الذي رسم صور ملونة بلون المعاناةِ والحصار .. مدينة أشبه بكراسة تقلب صفحاتها لتصفّع كلّ منا بذكرياته الأليمة .. علنا نستفيق على وطن يضمنّا بين رمشيه ويخبئنا من رياح الحياة .. دموع تنسابُ لتحكي كل دمعة منها عن شهيد حصار أخذه صمت العالم المريب ، الشاهد على ما تبقَى من جراحنا لكي نلملمها صباح مساء .. فكم من وائل اختنقت دمعتاه تحت روحه لتبحث عن روح جديدة تعلمه فن الحياة والقفز على الوجع .. كم من وائل خطفت يا موت لتحرمنا إما صديقاً أو طفلاً أو ربما شقيقاً لا نعلم أيّ الأيام تمنحهم جوازات السفر الأخيرة .. فكلّ المعابر تنادينا بأسمائنا .. وكلّ الحواجز تنادينا بأرقامنا .. وكلّ المدن تنادينا بفلسطيننا .. إلا الموت ينادينا حيث نصلي هناك آخر الصلوات .. نسمع التكبيرة ونرى دموع من يبكون حولنا .. نحاول فعل شيء لكننا لا نكترث .. ننام ، ونحلم من جديد بوطن أجمل.
يا أميّة .. هل يهزم الحصار ريشتك التي تفوقت على كلّ طائراتهم ودباباتهم .. هل تنامين الليلة كما ينام الطفل على صدر أمّه باحثاً عن حليب شوقه وقوت يومه .. هيّا انهضي من وسط لونك الوطنيّ ومزقي سياج الحصار .. انسجي على لوحتك صورة القادمين لينتفضوا معنا على أحزاننا ولون الوطن الذبيح بداخلنا .. امتطِ خيل وائل الصنديد وارمحي في ميدان غزّة .. ونادي للضفة .. علنا نرسم سويّة أيادٍ تصافح نفسها .. فننام بوطن .. ونحيا بوطن ..
لقد متنا في هذا الوقت مرتين يا أميّة .. مرة عندما أسهبت مشاعرك عن نفسها ونضجت بمقال مبكي بعنوان " عندما يبكي الرجال " .. ومرة عندما وصلني بعد يومين فقط من كتابة مقالك الحزين نبأ استشهاد وائل .. حيث الفاجعة ! .. لم تتمالكني أنفاسي فراحت تبوح تحت الشمس عن أسرار غيابنا .. فقد نجادل .. وقد نقاتل .. لكننا لن نهادن .
يا وائل .. أن ترى دمعه تنهمر من عين إنسان تحبه .. يمثل لك الدنيا وما فيها .. وتسعى لخطف هذه الدمعة عن خده .. فيصيب أعضاءك الشلل .. ولا تتحرك أصابعك .. و تفقد حواسك .. فتكتفي بالنظر إليه بكل أسى .. و نظراتك تقول بكل صمت " اعذرني " .. أن تقرر العودة إلى ذكرى قديمه .. لتتجول في تفاصيلها .. و تمسح كراسة أيامك معهم بكل أسى وتعب .. لكي لا يكون هناك أي مواقف مؤلمة في حياتك تذكرك بهم .. وبحقدهم ..
قل لهم .. إن صلاحيتهم قد انتهت .. وان النبض في قلبك ليس نبضهم .. وأن المكان في ذاكرتك .. ليس بمكانهم .. وان الزمان في أيامك .. ليس بزمانهم ... ولم يتبقَ لهم بك .. سوى الأمس ... بكل ألم و أسى .. و ذكرى الأمس ..
نعم لست براعي هذا البستان الجميل يا أميّة .. ولكن هناك ورود وأشواك لهذا البستان ..وكما نعرف " لكل مدينة مقبرة " .. في ذاك اليوم كانت الشمس باهتة على غير عادتها .. حيث رحل وائل .. تحاول أن تخفي نفسها بسحابة سوداء .. حتى لا يراها أحد .. فعم السكوت على المكان ..وطقس بارد يلحفني .. وأكوام من الــبــرد تتساقط على جسدي .. فاختفت الأصوات وغابت الألسن ..ولم يتبقَ إلا زخات المطر في سمائي .. وخلا المكان من الناس .. ولم يبق إلا أنا .. و " شيئاً من البستان " ..الخوف يزيدني .. والحزن يعتصرني .. والملكين من حولي .. يهمسان في أذني .. بين مدارات الأنين .. وبيدي وردة .. قد أخذتها من عين وائل .. أخفيتها لحبي لهذا الوطن .. فهربت .. وهربت حتى أجهدت قلبي .. إلى أين ؟
خفت أن يطول هذا الطقس .. ولا أجد من يدفئني .. فحاولت أن أسقي تلك الوردة قرب المعابر ولأجل الحصار .. وأترقب أزهارها .. فأيقنت بأن لا حياة لمن تنادي ..نعم لم أرض بأن المطر يسيل على خد الوردة .. لأنها سحابة في براءة قلبي ..
وبين تلك الورود هناك أشواق تعتريني تتقلص أضلعي ..وأعجز عن الوصول إليه ..
مثلكِ اليوم يا أميّة أتألم .. قد نجتمع في الهمّ والموهبة ومحبة الوطن .. لكننا لا نحصل يوماً على وائل .. لترسمي أنتِ .. وسوف أكتب أنا .. علنا نجد في ألواننا وكلماتنا ما يشبه الذكريات الجميلة .. ما يعيد إلينا وائل وأشباه وائل .
أتعلمين .. لا فرق فقد رحلوا جميعهم وتركونا وحدنا .. وائل ثم رامز وآمال .. ثم من يتمنون لنا موتاً .. لا يُبقي لنا ذاكرة في هذهِ الحياة .
__________________