بسم الله الرحمن الرحيم
أزهار النرجس 4
بين الريّـان والياسيـن
أخبار حصريّة تنشر لأوّل مرّة
إننا إذ نتنسّم ذكرى شيخ فلسطين، وإمام المجاهدين المعاصرين، رأيت أن أحييها على طريقتي الخاصّة، وأن أنتقي من أخبار الياسين التي حدثنيها أبي أجملها وأليقها بالنشر، وأضمّنها باقة جديدة من أزهـــار النرجــس!
من كتاب الدعوة إلى الله
باب صناعة الرّجال
وقوله عزّ وجلّ: "يا يحيى خذ الكتاب بقوّة"، وقوله تعالى: "إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلا"، وقوله صلى الله عليه وسلّم لعبد الله بن الزبير وهو صبي: "ويل للناس منك، وويل لك من الناس".
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فقال بعضهم: لم تدخل هذا الفتى معنا!
حدّثني والدي رحمه الله، قال:
أرسلني عمّي أبو ماهر –وهو جدّي لأمّي وأحد أخلص أصحاب الياسين ومن القادة المؤسسين- إلى شيخنا الياسين في بعض أموره، وكنت حينها فتىً في السابعة عشرة.
وكان الشيخ في عمله في المدرسة، قد جلس إلى تلامذته المخلصين من الأطفال يعلّمهم.
قال والدي: فلمّا رآني الشيخ قال: الحمد للـــــــــــــــــه! جاءنا شيخ يصلّي بنا صلاة الظّهر!
قال والدي يرحمه الله: فوقعت كلمته من نفسي موقعًا رهيبًا! وقلت: يا الله.. الشيخ يقول عني: شيخ!
ورأيت أن ذلك اللقب لا ينبغي أن يكون إلا بحقّه.. وصرت بكلمة الشيخ شيخًا .. أتخلّق بأخلاق المشايخ، ولا يسعني ما يسع العامّة!
قال الراوي: وكذلك كان الياسين يصنع الرّجال!
باب في اللين واليسر مع الناس
وقوله عزّ وجلّ: "ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة"، وقال تعالى: "فقولا له قولًا ليّنًا" وقال: "فبما رحمة من الله لنت لهم"، ويذكر أنه قيل للنبيّ عليه الصلاة والسّلام: ادع على ثقيف، فقال:" اللهم اهد ثقيفًا".
حدثنا أبي يرحمه الله في آخر أيام رمضان حضره؛ بمعتكف مسجد الخلفاء قال:
كنت أجلس عند شيخنا الياسين في سنوات غربة الحركة الإسلامية، وبداية نشاطها، وإذ بالشيخ عليّ –وهو من أصحاب شيخنا الياسين وتلامذته- يدخل علينا مغضبًا حانقًا.
فسأله الشيخ يرحمه الله عن سرّ غضبه فقال:
إنني ذهبت إلى فلان وفلان ممن ابتلاهم الله بآفة الشيوعية وبلغوا في ذلك الغاية حتى وقعوا في الإلحاد، فناقشتهم؛ ووعظتهم؛ وألنت لهم القول؛ وبسطت في الكلام وبسّطتّه! فما لقيت إلا إعراضًا واستهزاءً!
فبكّتّهم وأغلظت لهم، وشتمتهم، وأسمعتهم ما يكرهون!
فقال شيخنا الياسين: يا حاج علي.. يا حاج علي!
إذا لم تقدر على الدواء .. لا تجرح!
حدّثني أبي، قال:
خرجت بشيخنا الياسين إلى بعض قرى الضفة الغربية أثناء تطوافه في الدعوة إلى الله!
قال: ولم يكن للشيخ عربة كما أصبح له، وكنت أحمله على يديّ حملًا!!
قال أبي: فبينا أنا أمشي في بعض طرق تلك البلدة، والشيخ على يديّ.. وإذ بأحدهم يضع في يد الشيخ قطعة عملة قليلة القيمة!
قال الراوي: يظنّ أنهما محتاجان يتسوّلان!!
قال والدي: فغضبت غضبًا شديدًا، وهممت بالرّجل أريد أن أردّ لشيخنا الكرامة!
فحال الشيخ بيني وبين اللحاق به وقال:
يا نزار!
الرّجل أحسن فيما يظنّ!
فلا تقابل إحسانه بالإساءة!
واحتفظ بما جاد به للدعوة !!!
باب وعظ الصغار وتعليمهم
وقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يا غلام سمّ الله"، وعن أنس بن مالك قال ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وترجم البخاريّ في صحيحه: باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيانَ والعيالَ وتواضعه وفضل ذلك. وقال بعضهم: العلم في الصغر كالنقش في الحجر.
حدّثني والدي رحمة الله تعالى عليه، قال:
أوّل ما بدأ الشيخ به الدعوة الصغار والناشئة، فكان يمارس الدّعوة في محيط عمله –المدرسة التي كان يعمل بها-، فكان يتأخّر ببعض الطلّاب بُعيد انقضاء الدراسة، يعلّمهم الصلاة والآداب، وتلاوة القرآن.
قال والدي: وصار الشيخ يتدرّج بهم، فبعد التزام الصلاة، وتعلّم القرآن، صار يعوّدهم صيام النوافل، وبخاصّة الاثنين والخميس.
وإذ بالأهالي يأتون إلى المدرسة محتجّين! (وكان الناس في بعد عن الدين لا يوصف من قلة صلاة وصوم وقراءة قرآن).
قالوا: اسمع يا شيخ.. أمّا الصلاة فرضيناها، وقراءة القرآن محمودة.. وأما صيام الاثنين والخميس فهذا فوق الطاقة!
قال والدي: وكان شيخنا الياسين يردد: " نحن واليهود في صراع على هذا الجيل، فإما أن يأخذه اليهود منا، أو ننقذه من أيدي اليهود".
قال الرّاوي: وقد أكرمنا الله بلقاء شيخنا الياسين عشرات المرّات، وكان –لقرب الوالد منه- يعرفنا ويكرمنا إذا لقيناه، وكان يحتفي بالصغار عامّة ويكرمهم، ويرى ذلك دعوة لهم وتربية.
وحضر مناسبة يومًا قرب مسجد التوبة بمعسكرنا، فلمّا خرج أحاطه الصغار وهم يهتفون: أحمد ياسين، أحمد ياسين، فانتهرهم مرافقه.
فغضب الشيخ وأمره بالتوقّف، وسلّم علينا جميعًا، وقبّلنا يومها جبينه ووجنتيه ويديه!
وكان لذلك أعظم الأثر في نفوس الأطفال..
ورغم أنني كنت ألقى شيخنا في زيارات من هم أكبر منّي، إلا أنني لم أوفّر السلام عليه وزاحمت غيري من الصغار!
قال الراوي:
ولمّا حضر لزيارة بيت جدّي أبو ماهر، والد الاستشهاديّ صهيب عبد الرّحمن تمراز، ألقيت بين يديه: قصيدة "ياسين هذا يومك المختارُ" فسعد بذلك وسرّ. وكان لي بذلك كلّ فخر!
ومن كتاب الجهاد
باب الحضّ على الجهاد، وطلب الموت في سبيل الله
وقوله عزّ وجلّ: "إنّ الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأنّ لهم الجنّة"، وقال عزّ وجلّ: "فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، وأشاد عليه الصلاة والسّلام بمن "يطلب القتل أو الموت مظانّه"، وعن عليّ رضي الله عنه قال: كنّا إذا حمي الوطيس نتّقي برسول الله صلى الله عليه وسلّم".
حدثني أبي يرحمه الله قال:
سألت شيخنا يومًا قبل الانتفاضة بسنوات، قلت: يا شيخ، لو أن شابًا من الشباب تناول سكينًا ماضية، وانطلق بها إلى أحد الجنود المحتلين؛ فذبحه. فيقتله اليهود. ماذا تقول فيه؟
قال الشيخ: يكون بطلًا شهيدًا.
قال والدي ففرحت بكلمته فرحًا شديدًا، وأيقنت أننا على أبواب مقارعة اليهود!
وحدّثني رحمه الله، قال:
خطب بنا شيخنا الياسين في مسجد العباس –ونحن ثلة من أبنائه المخلصين- فقال: يا شباب، اعلموا أننا سنقاتلهم في اليوم الذي نمتلك فيه مسدسًا واحدًا.
قال الراوي: وذكر الوالد ذلك في بعض مقالاته.
باب الشجاعة في الحقّ
وقوله عزّ وجلّ: "وكلمة الله هي العليا" ، وقوله صلى الله عليه وسلّم: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله". ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم: "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". و" سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله".
وأخبار صدع العلماء بالحقّ متكاثرة في كتب التاريخ، وما أحاديث أسماء والحجاج، وسعيد بن جبير والحجاج أيضًا، وأحمد بن نصر الخزاعيّ والواثق، وأحمد بن حنبل والمعتصم عنّا ببعيد.
حدّثني والدي رحمة الله تعالى عليه، قال:
مرّت بلادنا بفترة مريرة، كانت الغلبة فيها على الساحة للشيوعيين الماركسيين، وصار لهم على الناس سبيل وفي قلوبهم رهبة!
فعنّ لبعض سفهتهم يومًا أن يلغي من حياة الناس شعيرة من أهمّ شعائر الدين! وهي صلاة العيد!
ورفع هؤلاء المجرمون الشعار المشهور: "عيدنا يوم عودتنا" وقالوا: "لا نصلّي العيد ولا نعيّد حتى تعود فلسطين"!.
وجبُن النّاس عن مواجهة هؤلاء المجرمين، وما قام لهم إلا الضعيف المشلول! القوي بإيمانه: أحمد ياسين! وأغلقت المساجد صبيحة العيد في بعض مناطق القطاع.
وقف لهم وقال: "أما عيد الفرحة فنعم.. هو يوم عودتنا.. وأما عيد الصلاة .. فيوم عودتنا ويوم هجرتنا"!
قال والدي: وكانت تلك مغامرة من الشيخ في سبيل الله، والتفّ من حوله النّاس.. وأبطل الله ما كان يصنع الشيوعيون.
قال والدي: وكان بعضهم إذ ذاك يفرك يديه في طرب ويقول: اليوم نلغي صلاة العيد، وغدًا الجمعة!
ومن كتاب السياسة الشرعية
باب الحيلة في الخير
وقوله عزّ وجلّ: " فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ..." إلى قوله: "فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاء أخيه". وقال صلى الله عليه وسلّم: "الحرب خدعة".
حدّثني والدي رحمة الله عليه قال:
كان الشيخ ياسين يرحمه الله صاحب براعة في الخطابة –على ضعف جسده وصوته- وكان له جمهور عريض يأتيه من أنحاء القطاع، يسمعه ويتابعه.
فأغاظ ذلك الحاكم العسكريّ فمُنع الشيخ من الخطابة!
وأرسلوا خطيبًا بديلًا إلى مسجد الشيخ!!
وكَبُر ذلك على تلامذة الشيخ ومحبّيه، وثقل عليهم أن يحرموا سماع صوته في ذلك الاجتماع الأسبوعيّ الفريد!
فاتفق الشباب على خطّة يزيحون بها الخطيب الجديد، ويعيدون الشيخ خطيبًا.
ولمّا حان يوم الجمعة .. ودنت ساعة الصلاة .. خرج من الشباب مجموعة متفرّقين، فتربّصوا بالخطيب الجديد.
فجعل كلّ منهم يسأله سؤالًا في الفقه عسيرًا شائكًا صعبَ الإجابة والشرح.
وصار الخطيب كلّما فرغ من واحد .. تلقّفه الآخر بعد أمتار –وهو لا يملك ردّهم يخشى أن يُظَنَّ به العجز عن الإجابة!
فأذّن المؤذّن والخطيب الموعود في الشارع! وفزع الناس إلى خطيب، فقام شيخنا الياسين وخطب.. وفرّ الخطيب البديل!
ومن كتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة
باب التحذير من البدع، والحرص على سلامة المعتقد
وقوله عزّ وجلّ: "وأنّ هذا صراطي مستقيمًا فاتّبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله"، وقوله صلى الله عليه وسلّم: "وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار".
حدّثني والدي قال:
لمّا قامت الثورة الإيرانية المعاصرة، انشدّ لها النّاس كونها ثورة شعبية على طاغوت، ولأنها ترفع شعار الإسلام.
ولكنّ شيخنا الياسين كان حذرًا نبيهًا فقال لنا: "يا أولاد.. هؤلاء شيعة"!
خاتمة في العلاقة بين الريّان والياسين
قال الراوي:
وكان والدي في غاية التأثّر بشيخه الياسين، شديد الحبّ له والولع بتراثه! وكان يذكره كثيرًا وأحاديثه عنه لا تحصيها المقالات المستعجلة! وكان يراه إمامه في عصرنا وشيخه المقتدى به. وقد أفلح بذلك إن شاء الله.
ولعلّه يجدر الختمة بما ختم به الوالد مقالته الشهيرة "شيخي أحمد ياسين":
"واليوم تعلمنا وأنت حي عند ربك بإذن الله، تعلمنا يا حِبَّ القلوب والأفئدة، يا زيتونة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، فكيف وقد مسته النار، فامتد لهيبًا يحرق الغاصبين المحتلين، ليرحلوا ليرحلوا، فما في بلادنا مكان للغرباء والغربان، إنها بلادنا.
إنها فلسطين."